طوق الياسمين
بقلم..
محمد محمود الجزار
وريشة .. حدوتـــه مصرية
بعد مناقشات ومشادات واختلافات فى وجهات النظر ، استطعت أخيراً - بتأييد أبى - أن أقنع أمى بفكرة زواجنا ، فلقد تغير حال أمى كثيراً فى الآونة الأخيرة خاصة بعدما رأت تمسكى الشديد بك .. بل إنك قد لا تصدقنى إن قلت لك أنها فى أخر مرة تناقشنا فيها حول هذا الموضوع قالت أنها لم تعد ترفض فكرة زواجى من شخص مختلف الجنسية حتى ولو كان بلا بطاقة هوية مادمت أحبه وأرى فيه الرجل الوحيد القادر على تحقيق سعادتى.
كل هذا وأكثر كتبته لك فى خطابين سابقين .. وكنت أعتقد أن هذا سيسعدك كثيراً ولكنك لم ترد .. إنك لا تعرف كم يكلف المرأة أن تكون صاحبة المبادرة .. وها أنا أدعوك للزواج منى وأنت لا ترد.
استيقظ مع كل صباح وكلى أمل بأن عم إبراهيم ساعى البريد سيطرق بابنا ومعه خطاباً منك .. ولكن الأيام تتوالى ولا يأتى عم إبراهيم .. وقلقى عليك يزداد يوماً بعد يوم ..
وفى صباح أحد الأيام وأنا جالسة مع أبى وأمى فى شرفة منزلنا نتناول طعام الإفطار .. فإذا برائحة الياسمين تهب قوية .. وتحولت عينى إلى الناحية التى تهب منها الرائحة .. ورأيته .. نعم رأيته .. إنه عم إبراهيم .. ها هو قد حضر أخيراً ومعه من الكلمات ما انتظرته طويلاً ..
قفزت درجات السلم بسرعة وكلى لهفة أن أفتح رسالتك .. وقلبى يسابقنى إلى عم إبراهيم ..
- تفضلى بالتوقيع .. من فضلك
- لِـمَ ؟!!
- طرد ..
وتسلمت لفافة كبيرة تفوح منها رائحة الياسمين .. وصعدت درجات السلم بسرعة كبيرة كادت تتسبب فى سقوطى .. ودخلت إلى غرفتى .. وأغلقت بابها .. وعقلى يتساءل يا ترى ما الذى يحتويه هذا الطرد الكبير..
بدأت فى فتح الطرد .. ورائحة الياسمين التى أعشقها تملأ أنفى فتزيدنى نشوة وفرحا .. لست أذكر من كان منا صاحب الفكرة أنا أم أنت .. طوق من الياسمين يغلف كل رسالة أرسلها لك .. وطوق من الياسمين يعطر كل رسالة أتلقاها منك .. وفتحت الطرد فعلاً ..
ما كل هذه الأوراق ؟؟!! ..وما كل هذه الأطواق ؟؟!!
إنها رسائلى إليك .. كل الرسائل التى أرسلتها إليك على مدار عامين .. وكل أطواق الياسمين التى كانت تغلفها وقد أصابها الذبول والاصفرار .. وورقة واحدة كبيرة مكتوب عليها بخطك الذى لا تخطئه عينى : "لا تنتظرينــــــى" ..
لست أدرى كم مر من الوقت وأنا أخفى وجهى بين الخطابات .. ولست أدرى كم من الدموع التى سكبتها قبل أن أخرج من غرفتى وأتوجه إلى كليتى...
لماذا خرجت من غرفتى ؟!! .. لست أدرى .. ولماذا أذهب إلى الكلية الآن ؟!! .. لست أدرى .. ربما لأحاول أن أخرج من تلك الحالة التى أنا فيها ..
ولست أدرى لماذا يأتى صوت فيروز من بعيد الآن : "حبوا بعضٌ .. تركوا بعضٌ ...."
فى عامى الأول بالكلية تعرفت عليك .. وكنت تكبرنى بأعوام ثلاثة .. ونشأ الحب بيننا من اللقاء الأول .. وبعد أن أنهيت دراستك .. سافرت على وعد بأن تعود حينما أنهى دراستى لنتمم إجراءات الزواج.
وسط زميلاتى البنات جلست فى المحاضرة وذهنى شارد تماما .. حتى الآن لا أستطيع أن أفهم ما حدث .. أبعد كل هذا الحب ؟! .. أبعد كل تلك السنوات التى قضيتها وأنا أنتظرك وأعارض الدنيا كلها من أجلك .. عارضت والدتى للمرة الأولى من أجلك .. ورفضت كل من تقدموا لخطبتى من أجلك .. حتى زميلاتى وصديقاتى كانو دائما ما ينصحونى بأن زواجنا أمراً مستحيلاً .. كنت أقف فى وجه كل هؤلاء وانا واثقة تماما بأن الدنيا كلها ستكون ملكى مادمت معك .. الآن أتذكر كل ما كانوا يقولونه عنك .. أكانوا على صواب ؟!! .. إننى كنت أثق بك أكثر من نفسى .. أتتركنى هكذا بمنتهى السهولة .. إنك لم تكلف نفسك حتى أن تخلق لها أعذاراً حتى وإن كانت وهمية أو واهية ؟!! حتى تلك الأعذار التى ما كانت ترضينى لم تكلف نفسك عناء كتاباتها إلىّ.
أخرج من كليتى وأتوجه إلى منزلى .. أسير فى الطرقات وعقلى يحمل ألف ألف سؤال .. وكلهم بلا إجابة .. إنك الوحيد القادر على إجابة تلك الأسئلة .. كل ما حولى يدعونى كى أفيق مما أنا فيه .. ولكن كيف .. أيمكن أن أفعل مثلك وأنسى الماضى كله فى لحظة مثلما فعلت أنت أم أن هذا الماضى لم يكن يمثل لك شيئا حتى تنساه ..
قدماى تورمت من السير عليهما .. لست أدرى كم من الوقت مضى وأنا أسير هكذا ؟!! .. ووجدت محطة أتوبيس بالقرب منى فتوجهت إليها وجلست .. كم أنا منهكة ومتعبة ولكن الحزن الذى بداخلى كان أكبر وأقوى من أن يجعلنى أشعر بالتعب ..
وأنا جالسة على المحطة .. سمعت اسمك .. نعم سمعت اسمك .. إن لاسمك وقعا مميزاً لا تخطئه الأذن أبداً .. توجهت بعينى إلى حيث سمعت أذنى اسمك فوجدت رجلين واقفين يتبادلان الحديث .. اقتربت منهما .. وسألتهما عنك .. هل يعرفانك؟! .. ولماذا يرددا اسمك ؟! .. بدت عليهما ملامح التعجب وناولنى أحدهم جريدة كان يمسكها بيده فوجدت فى صدر صفحتها الأولى صورتك .. نعم إنه أنت .. ومكتوب تحتها .. "أسفرت العملية الاستشهادية التى قام بها الشاب الفلسطينى ..... عن موت .... اسرائيلى .. وإصابة آخرين ، وتدمير .... و .... و ..... ".
لم تقوى قدماى على حملى بعدها .. ولست أذكر ماذا حدث بعدها .. إلا أننى سأظل أجلس مساء كل جمعة أكتب لك خطابى الأسبوعى المعتاد .. وأزينه بطوق الياسمين .. ولكن بدلاً من أن أرسله إليك .. سأودعه درج مكتبى ..